غالبا ما تتآمر الكتابة على روادها فتهرب بعيداً، لكنها ما تلبث أن تعود كطيف مناور يراودهم على فترات متقاربة أو متباعدة، كجرعة دواء يحدد الطبيب توقيتها، ينجح البعض في استعادتها واستعادة طقوسها بمحاولات شتى، فإذا استطاع كان بها، وإن لم يستطع غلبته وغالبته، بينما تستمر متمردة على آخرين وكثيرين، فهي تزور الجميع، ولا تترك أحداً، تقترب من بعضهم، ولا تقترب من آخرين، قد تكون الكتابة من أكثر المخلوقات تهرباً وفراراً من الناس، فهي لا تمنح نفسها إلا لمن عرف قدرها، وأجادها، وصادقها، ومنحها متطلباتها العصية، بل البالغة في عصيانها السهل الجميل كما يصفها كثيرون…
في أحايين كثيرة، تكتب ثم تعود إلى ما كتبته لتنقحه وتعدّله وتبدّل لفظاً بآخر، وتستبدل عبارة بأخرى، تُغمض التلميح وتنأى عن التصريح كأنك في مجلس، تُراعي سنّك وعائلتك وأصدقاءك، تُراعي الظروف والأحوال والأهوال والمواقف والقريب والبعيد، كأنما تسكن الرقابة داخلك، رقيب تربوي وآخر اجتماعي ورقيب ديني، وينأى بك ذاك عن نفسك، وتنأى كلماتك عنك مهاجِرة منك أو مهجّرة قسراً، وهكذا تتحول العبارة مُجامِلة، والكلمات مُمَكيجة، والمعاني ضائعة، الشيء الذي جعلنا نكتب في كثير من الأحيان سطوراً تُقرأ، وبين هذه السطور معانٍ لا يستطيع قراءتها إلا من كانت بصيرته أقوى من بصره…
لم نعد شيئاً أكثر من أقنعة، فقدنا الكثير من خصائصنا وصفاتنا، فقدنا قلوبنا ووجوهنا وأنفسنا، لذلك نرى أن كثيراً مما نخطه ونصدره يصل المستهدف وقد فقد معظم اللحم والشحم وانتهى إلى عظم لا ينتج مرقاً، وإن أنتج شيئاً من ذلك فبِلا دسم، وهذا ينطبق على الكتابة، إذاً كيف للمرء أن يُبدع في ظل هذه الأهوال، رغم أن الكتابة تقع بحسب ما نحن عليه من الأحوال !
🖋️إدريس زياد