في يوم ما من زمن غير بعيد ، كتبت مقالة نشرها مشكورا الزميل عبد الرحيم اريري على صفحات انفاس بريس وأعدت نشرها شخصيا على صفحتي ، تحدثت فيها عن صفعة وجهها لي أطفال تواعدوا على مشارف مدينة سبتة السليبة، بغاية الرحيل من موطنهم ، زحفا ، بحرا وبرا ، نحو عالم آخر يتبدى أفضل أمانا لهم.
كم تمنيت منذ ذاك الحين، ألا أعيش مثيلا لتلك الحالة وتوسلت في قعر جوارحي أن يعمل كل المعنيين على ان لا تتكرر تلك الحادثة الأليمة ، وأن يتم تجاوزها بصدق وعناية.لكن …
هآ أنذا مجددا تحت وطئ صفعة أخر تأتيني منذ أواخر شهر سبتمبر الراحل، يوجهها لي جزء من شبيبة هذا البلد، ، ولهذه الصفعة الجديدة معان متعددة ، لأنها تتعلق بفشل التصور والتدبير والسياسة المرتبطين بميادين التربية والتكوين والصحة والعدالة بالمغرب ، وبالتالي هي إعلان صريح عن فشل الدولة في القيام ببعض وظائفها الجوهرية ، وقد وضع أصحاب هاته الحركة ضمنها مسألة المحاسبة بما تطرحه من قضايا ترتيب المسؤوليات، على أية حال تدفعني الأحداث المتتالية لتقديم التأملات والشجون التالية:
جيل الزاي ورهاناته الصعبة
-1حين يتعلق الأمر بمطالب او مواقف يتخذها الأطفال واليافعون من أبناء هذا الوطن يصبح الجميع من كل الفئات الأخرى موضوع مسائلة ومطالبين بتقديم أجوبة عن الاعتبارات التي أنتجت ذلك. وبالرغم من عدم سقوط مسؤولية ذوي القرار بكل مستوياتهم وفتراتها ، فإن الجميع معني ويجب ان يقدم قراءته لما يجري، لذا في علاقة بالموضوع ذاته أقول شخصيا لكل أطفال ويافعي هذا البلد ، أحس بغبن وأسى شديدين لأنني فشلت في المساهمة في إنتاج قوة سياسية جماهيرية تمكن وتتمكن من تحمل المسؤولية لتدبير أفضل سياسيا وبشريا، معنويا وماديا للتعليم والصحة والتكوين ، و يؤلمني جدا أنني فشلت أيضا في المساهمة في معارضة ناجعة تضع حدا للتصورات والسياسات والتدابير الخاطئة التي تعاقبت على هذا البلد في المجالات المذكورة وأدت إلى الوضع الذي نحن فيه.ويبدو لي أيضا بهذه المناسبة أن التعليم والصحة والعدل ليست حقوقا او مطالب للشبيبة وحدها وإنما هي مطالب لمجموع المجتمع تشكل حقوقا إنسانية ووطنية للجميع تلزمها المواثيق الكونية والدستور الحالي على بعض عيوبه ، وقد فشلت الدولة المغربية في تحقيقها وصارت عبارة عن مواضيع ثابتة في جدول التغييرات الضرورية بالبلاد منذ زمن طويل، وبالتالي ليس هناك فيما يحدث عنصر مفاجأة غير متوقعة، ولكننا بلد يعيش منذ مدة على سؤال متى فحب بالنسبة للعديد من الاختناقات.
-2 إن اجتماع كوكتيل من القضايا الجوهرية في حركة اجتماعية واحدة مهما حاول بعض المتحذلقين اعتباره إشكالا “اجتماعيا محضا ” (أي في القاموس المغربي غير خطير حسب زعمهم) هو ذو معنى سياسي كبير بامتياز، و يدل إضافة إلى قصور أداء أصحاب القرار وعدم جاهزيتهم لمعالجة قضايا البلاد، على فراغ سياسي هائل حاصل في منظومة المؤسسات الاحترازية التي لم تر استعجالية هاته المواضيع وانفضح عجزها التام و عجز الهيئات المفترض تعبيرها عن طموحات المجتمع في مختلف مكوناتها ، ومن المثير للاشمئزاز أن تصرح قوى المعارضة والأغلبية في نفاق جماعي على حد سواء بموافقتها التامة على مطالب اليافعين وسلامتها ، لأن الأمر غير حاصل في الواقع وكل برامج الحكومة تصب في مجرى آخر وكل اهتمامات المعارضة تبدو غير مقنعة للمغاربة من كل الأعمار و إلا ما كان للمتظاهرين أن يخرجوا أو لو خرجوا تحت لواء انتماءات أخرى قائمة.
-3 إن أحد العناصر التي أضعفت المجتمع المغربي باستمرار وشكلت مواقع اختناق لطموحاته هي رفض النظام السياسي الذي نعيش فيه التعايش مع المعارضات الاجتماعية والسياسية التي لا تخضع لإرادته ورفضه التام باستمرار لكل المكونات المدنية والاقتصادية والسياسية والدينية التي تود الاعتماد على استقلاليتها الذاتية وحريتها الخاصة في الاختيار ، وقد أدى هذا الإمعان إلى بناء كثير من الطابوهات المصطنعة التي تنهك الضمير الجمعي للبلاد ،كما فرض على المنظومة تغذية أنماط الريع والفساد والمبالغة في التسلط مؤديا إلى الإفراغ المتواصل لمصداقية وثقة المؤسسات بكافة أشكالها، وتقويض كل الرصيد القيمي لكل النخب القائمة، بل حتى للبلاد برمتها.
وقد تميزت العشرية الأخيرة في المغرب بالضبط بالاستهانة بالمطالب الاجتماعية عامة ومهاجمتها مباشرة وبالخصوص بقطاعات الصحة والتعليم من خلال الخوصصة الواسعة لهما ،وتحويلهما لموقع لامتصاص مداخيل غالبية المجتمع لفائدة أثرياء البلاد وشركائهم الأجانب ، هذا بينما رصع ادعاء الدولة الاجتماعية المزعومة كل خطاب الدولة الرسمي بشكل استفزازي وتم عمليا إسكات الأصوات المؤسساتية التي تحاول التنبيه للاختلالات أو الدعوة لإصلاحها، ، وهذا يا للأسف هو مغرب اليوم الذي ضاقت شبيبته بمعوقاته المتوالية.
-4 لقد توالت في المغرب منذ نهاية الحماية الاستعمارية سلسلة من الأزمات بشكل متواصل وشبه دوري تسجل لحظات احتقان اجتماعي وسياسي ترى فيها السلطة كل مرة امتحان وجود ويتم فضها كل مرة بعنف السلطة أساسا ، وذلك رغم دعوات الحوار وبناء الثقة ، هكذا ظلت كل الأزمات تخضع لمنطق القوة في حلها وتقبر فيها كل منافذ الحلول الأخرى ، بذلك ساهمت هذه التجربة التاريخية الطويلة نسبيا(سبعون سنة تقريبا) في تكوين عقيدة للسلطة بالمغرب لدى الحاكمين تقوم على أولوية استعمال القوة وإضعاف، بل تغييب تصور إمكانية منطق الحوار بين الفرقاء بشكل كبير، وهكذا بين أزمة وأخري لا تشرع البلاد في بناء ذاتها بل التحضير كل مرة للمواجهة القوية مع الازمة القادمة كمهمة حيوية للسلطة.
– 5 إن التطورات التي نعيشها منذ بضعة أيام تثبت استمرار هذا النمط السياسي المنتج للاحتقان وتعبئة وسائله التقليدية والزج بقوى الأمن والسلطة في مواجهة مباشرة مع المجتمع، وهذا يدل مجددا على الرغبة العمياء في توسيع الهوة بين الدولة والمجتمع واعتماد نفس أساليب الضبط الفاسدة التي تم اتباعها في مجتمع يعرف الجميع إمكاناته الهائلة، ولكن دولته تحتل الصف120 في مصاف التنمية البشرية وسط 193 دولة عبر العالم.ويجري هذا في لحظة دولية وجهوية صعبة جدا يحتاج فيها المغرب لنوع من الحكمة والرصانة حتى يدبر ألغام وضعه الجيوسراتيجي و لا يسقط في فخ العنف والتخريب الذي يهددانه، وهو سبيل قد تغذيه عناصر اليأس أحيانا، ولكن تدفع إليه بسبق إصرار وترصد استراتيجيات قوى دولية غايتها تفتيت التضامنات المتنوعة لصياغة عالم جديد يتم بنائه على أنقاض البنيات المتهدمة اليوم والتي صنعتها كفاحات التحرر الوطني ببلدان افريقيا والمشرق في لحظات مد بطولي أصبحت منسية يا للأسف.
– 6 أمام مكونات الوضع الحالي يصبح جيل الزاي في تجلياته حاملا لآمال بلاد بددت السلطة نخبا منها فأفنتها ، وعوضتها بنخب هجينة تخلت عنها لتعيش فعليا على فتات ما يتركه جشع ونهب مقاولات ووسطاء وإدارة رأسمالية رثة، تلك مهمة جسيمة إذن لا توضع عادة على عاتق فئة فتية مثل جيل الزاي ،لكنها أحكام الضرورة ، ويعني هذا حسن استمرار هذه الحركة بأشكال متجددة ومبدعة تفي بالأغراض المرجوة لها وهي أهداف لا بد أن تكون كبيرة لأنها تمر من إعادة صياغة السياسة وتنميطها بالبلاد، و وتغييرفعلي للسياسات العمومية والتدبير والحكامة مما يعني ضرورة صرف المتطفلين من أكلة الموائد والامتيازات الطائشة ، وفتح صفحة جديدة في البلاد.هناك فقط إشارة بديهية لجيل الزاي تتلخص في أن المستقبل المغربي لا يمكن أن يبنى إلا على رفض العنف واساليبه جملة وتفصيلا، هذا هو الشرط الذي يمكن للنزهاء ان يضعوه بكل مشروعية لهاته الحركة ، بالموازاة مع مطالبة السلطات العمومية بتوخي التواصل الحقيقي بدل استعمال القوة العمومية .
وتخضع تجربة جيل الزاي اليوم لبضعة امتحانات حكمت التجارب المغربية السالفة ستحكم أيضا على نضجها وأهليتها ، ففي كل مرة بالإضافة لاستخبارات أجهزة الأمن بأنواعها كانت تنظيمات الحركات الاجتماعية محاصرة بالدخلاء الذين يبحثون عن مصلحة لهم من خلال العلاقة بأهل الحركة ، وأحيانا من خلال البحث عن تمثيلية، او دور او وساطة مزيفة او ركوب عرضي إلى غير ذلك من الأطوار الغريبة لمغرب الانتهازية السياسية، وقد ساهمت هاته الأصناف في الإفساد أو التشويش عليها.وأخيرا على الرغم من فتوتها، على هذه الحركة ان تتجنب الخطيئة التي لازمت كل سابقاتها اللواتي ألفن نسخ كل ما سبق وتسويق الأحكام الجاهزة على نضالات ومكتسبات الماضي ، فالمغرب له سنن رسمتها وقائع البشر والطبيعة لا مفر منها وأجياله ستتعاقب طوعا أو كرها ،مثلما ترويها لنا القرون المتعاقبة.