في الدول التي تنعم بالديمقراطية يكون فيها الحراك الشعبي ضرورة أحيانا لرفض سياسة الحكومة أو المطالبة بالحقوق الضرورية، و غالبا ما ينتهي الحراك بتوافقات ترضي الجميع و في مصلحة الوطن و وحدته وتماسكه ، دون مخلفات سياسية أو ثقافية أو عنصرية أو عرقية أو خطابات انفصالية ،لأن هناك ديمقراطية حقيقية تحكم بين الشعب و الحكومة فيما اختلفوا فيه، و لأن هناك دستور لا يسمح لأحد أن يتعدى حدوده ، كيفما كان مركزه أو سلطته.
إن مناسبة هذا القول هو حراك الريف الذي عادت دلالته السياسية هذه الأيام على إثر وفاة والد المعتقل السياسي ناصر الزفزافي و السماح لهذا الأخير بحضور مراسم جنازة والده، و ما صرح به أمام الذين حجوا إلى بيت والده لتقديم واجب العزاء كان بمثابة ضربة قوية للذين يريدون أن يجعلوا من الزفزافي كبش فداء لما قال، بأن الوطن واحد بصحرائه و شماله و جنوبه ، هي الصرخة التي أسكتت أصواتا تستغل المناسبة لرفع شعارات انفصالية .
موقف الزفزافي و هو يودع والده الوداع الأخير لم يكن اعتباطيا أو مجردا من الأخلاق السياسية و الوطنية و الدينية ،بل كان يقدر الظرف و نفسية الذين جاءوا من أنحاء الوطن ، موجها في ذات الوقت رسالة للحكومة والأحزاب الذين سارعوا إلى وصف الحراكيين(بالكسرة تحت الحاء ) الريفيين بالخيانة ليؤتتوا حكما قاسيا في حق الزفزافي ورفاقه.
إن هذا الحدث يجعلنا نستحضر السياق العام الذي جاء فيه الحراك الحسيمي. إنه حراك كانت بدايته عندما تم سحق تاجر السمك المغربي محسن فكري حيث قتل مطحونا عام 2016 في مدينة الحسيمة في شاحنة نفايات ، أمام أعين الناس، حينما حاول استعادة أسماكٍ صادرها منه رجال الشرطة على خلفية مخالفة قانونية للصيد ، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية واسعة وغضب في المغرب دفاعا عن الكرامة ، خاصة بعد انتشار صور كانت جد مؤثرة لجسمه بعد تعرضه للفرم.
كانت احتجاجات غاضبة و مطالبة بمعاقبة المسؤولين عن هذه الجريمة الشنعاء . استمرت الاحتجاجات في مدينة الحسيمة و في مدن أخرى بالمغرب دفاعا عن الكرامة و حقوق الإنسان ،احتجاجات سلمية من أجل تحقيق مجموعة من المطالب المشروعة . و لم تتحرك الحكومة، تاركة المطالب تتناسل و تتشعب و تتداخل و مناسبة لجهات تحمل شعارات ضد وحدة الوطن و سلوكات توحي بأن الحراك أصبح في قبضة من لهم مصلحة في الركوب على المطالب الجماهيرية.
هناك تحركت الحكومة دون أن تحمل حلولا واقعية و لا تواصل هادئ و مسؤول يشعر من خلاله المحتجون بالثقة في المؤسسات الحكومية و يحفظ كرامتهم و محاسبة المسؤولين على تبديد المال العام و الفساد و الرشوة ، ذلك ما كان يجب أن يكون ،نقاش ديمقراطي مع كل الأطراف الفاعلة في هذا الحراك دون التأثر بشعارات كانت خارج السياق والعمل على احتواء الأزمة بالاستجابة الى المطالب ذات الأولوية من مستشفيات و معاهد ومدارس ومرافق اجتماعية وثقافية مؤسسات إنتاجية لتشغيل الشباب .
كان ذلك السبيل الديمقراطي الوحيد الذي كان يجب أن يكون حاضرا في هذه الظروف . لكن الحكومة اتخذت موقف الهروب إلى الأمام لأنها جاءت بخطابات متناقضة تحمل في طياتها التسويفات، و التهديد ، خطابات خشبية دون تقدير حجم الحاجيات الضرورية و الملحة لأبناء الحسيمة و دون اعتبار أي حق من حقوق الساكنة ، معتبرة المحتجين خارجين عن القانون ، فاتخذت سبل القمع والاعتقالات والمطاردات، أي الحلول الأنسب لفرض الانضباط ، حلول طبيعة الحكومات المستبدة الراعية لرموز الفساد وناهبي المال العام ، بدل أن تقوم بمتابعة المسؤولين عن الحالة المزرية التي تعيشها الحسيمة وتعتبرهم “الخارجون عن القانون” و تجب محاكمتهم ومساءلتهم و متابعتهم بتهمة الإخلال بالأمن و بالواجب الوطني تجاه المواطنين والمواطنات بالحسيمة.
ذلك هو المفتاح الديمقراطي لضمان وحدة الشعب ووحدة الوطن، و هو ما عبر عنه المعتقل السياسي ناصر الزفزافي.
– البدالي صافي الدين