روعة فصل الشتاء في طول ليله، وجاذبية دفئه، ولسعة برده، ونغمات غيثه، وبركة رزقه، وصفاء مائه، وانتظار شمسه، وبطء غيمه، وجمال سمائه، واختباء نجومه، وصدق أحلامه، وعشق وقته، واجتماع أهله، وطول سمره، وكأنه ينافس الربيع والصيف والخريف، بل يتجاوزهم إلى سويداء القلوب، فلا يكاد يترك لهم من الفراغ إلا قليلاً…
كان “المجمر” المتوقد بحطب الزيتون ملاذنا الوحيد للتدفئة وأنيسنا في ليالي الشتاء الباردة والطويلة، إلى جانب حكايات والدتي وتحذيراتها المتواصلة، نتزاحم حوله ونلتف بقربه، نُحمّص عليه الخبز، نُسخّن عليه الشاي، نشوي عليه البطاطا، نُنشف عليه ملابسنا المبتلة، حتى إذا خبا وهجه وضعفت ناره كعجوز أثقلته السنين، نفخنا عليه حتى تنتفخ أوداجنا وتحمر خدودنا، المشهد لم يكن مثالياً في كل مرة، فكم من سجادة ثقبتها حبات الجمر، وكم من جوارب أحرقتها الحرارة الزائدة، حتى إذا صار سكناً بلا روح، نثرنا بقاياه بالقرب من شجرة الزيتون، كسماد طبيعي وردٍّ للجميل، “المجمر” كانت تزاحمه حرارة العلاقات الأسرية، اليوم ذهب “المجمر” وذهبت معه لمّة العائلة وجاء المُكيّف والجوال، الأول يعطي حرارة اصطناعية، والثاني يعطي تواصلاً خادعاً…
فإذا لم تفتح فمك للسماء عند تساقط الأمطار، وإذا لم تأكل حبيبات الثلج “التِّبْروري” المتساقطة على عتبة البيت، وإذا لم تسرق الطباشير الملونة من قمطر المعلم، وإذا لم تدق على الجيران وتهرب، وإذا لم تأكل خلسة في القسم عندما يدير المعلم ظهره، وإذا لم تحاول تقليد ضربة الكابتن ماجد أو الكابتن رابح خلال مباريات كرة القدم، وإذا لم تترك أطراف الخبز الجاف الغير الموصول برواء المرق على سور المدرسة، وإذا لم تتدحرج من على المنحدر وأنت تدور بسرعة وسط عجلة مطاطية كبيرة فارغة، وإذا لم تشرب بقايا كؤوس الشاي والمشروبات والعصائر التي يتركها الضيوف خلفهم، وإذا لم تسرق من الأكل وأنت توصل المؤونة إلى الفقيه إمام المسجد، وإذا لم تتظاهر بالنوم على ركبة أمك حتى تحملك لسريرك، وإذا لم تعد تذكر صديقتك التي كنت تحبها في السنوات الأولى الدراسية، إن لم تكن تفعل واحدة من جميع ما ذكر آنفاً، فاعلم أنك لم تعش مرحلة الطفولة على أصولها…
كم أعشق ليل الشتاء الطويل الساكن الهادئ الممتد من أول حرف في روحي إلى آخر عشق في قلبي، ووحده ليل الشتاء القادر على ملء فراغات كثيرة خلفتها ليالي الصيف القصيرة.
🖋️ إدريس زياد