العيد الكبير تجديد لعقد المحبة بين الناس، العيد الكبير فرصة لتجديد علاقات الرحم وترميم ما اهترأ من العلاقات الإنسانية بين أبناء المجتمع، في العيد الكبير يفرح الناس مهما كانت مصاعب الحياة، في العيد الكبير يسمو الناس بأخلاقهم جمالاً وإحساناً، في العيد الكبير يكبر الصغار وتكبر آمالهم، في العيد الكبير يلتقي الأحباب فتلتقي أرواحهم قبل وبعد لتبقى هكذا طوال العمر، العيد الكبير أو عيد الأضحى، هو احتفال ونشاط وحيوية، ودبائح بمثابة قرابين تقربنا إلى الله عز وجل، فصباح العيد كله حياة ونشاط، المساجد تعج بالمصلين فجراً والمصليات تمتليء ساحاتها والشوارع المحيطة بها أيضاً تمتليء بالمصلين وأصواتهم ترتفع إلى السماء بالتكبير والتهليل، طقوس تضفي جمالاً على هذه المناسبة العظيمة، سُمِّيَ العيد الكبير في بلادنا لأنه مجمع الفرح والكرم، فذبح الأضحية عبارة عن موسم كبير تشارك فيه العائلة بجميع أفرادها من الجد والجدة إلى أصغر الأحفاد، هذا يمسك الحولي والآخر يُحْضِرُ الماء والأخرى تزند الفاخر في المجامر لشواء البولفاف العجيب، وآخرون يشعلون المواقد والكوانين لتشويط الرؤوس والأرجل…
أما الأحاديث فكلها تدور على أخبار الأضاحي وجودتها والأسعار والأنواع المتنوعة من الأضاحي، وفي المساء يجتمع الكل حول مائدة كلها ودّ وحُبّ ووئام لتناول لمبخّر، وفي اليوم التالي عند تقاليد البعض ومع وجبة الفطور تُقدَّم الحريرة وقطبان الزنّان بالشاي لمشحّر على الفاخْر الفاخِر فوق المجامر، وأثناء وجبة الغداء يُحضّر الكسكس وعند البعض الآخر يُحضّر الثّريد كعناوين لاكتمال الفرحة الكبيرة، كما تختلف الوجبات الرائعة من قبيلة إلى قبيلة حسب العادات والتقاليد، وفي هذا اليوم الكبير تلاحظ تلاحماً استثنائياً للناس، ليس تلاحماً فقط بل تلاحماً وتشاحماً وتكابداً وتكارشاً، حيث لا صوت يعلو فوق صوت اللحم والشحم…
ويبقى المظهر المميز الكريم للمغاربة يتمثل في البذل والعطاء والإيثار، ففي مثل هذه المناسبات الكبيرة لا ينام فيها جائع، الجميع يشتري الأضحية غنياً كان أم فقيراً بفضل التكافل والتضامن الإجتماعيين، والأضحية لا يهم ثمنها بقدر ما يهم إخلاص النية في التقرب بالقربان إلى الله امتثالاً وشكراً، يقول الأصمعي: وليَ رجل القضاء، فأبطأت عليه أرزاقه وليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى امرأته، وأخبرها ما هو فيه من الضيق، وأنه لا يقدر على أضحية، فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكاً عظيماً قد سمّنته، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه، فبلغ جيرانه الخبر، فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم، فلما عاد إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي، قال لامرأته: من أين هذا ؟
قالت: أهدى لنا فلان، وفلان، وفلان…حتى سَمّت له جماعة، فقال لها: يا هذه، تحفّظي بديكنا هذا، فلهو أكرم على الله من الغلام الحليم، إنه فدى ذلك بكبش واحد، وفدى ديكنا هذا بثلاثين كبشاً !
العيد الكبير يكتمل جماله بالمرأة كرمز للجمال، فهي أجمل ما في أعيادنا كجمال الأطفال، وسر الجمال يكمن في ملامحها وهي تنتقل من مُؤْنِسَة إلى مُؤْنَسَة، وببراءة ظاهرة في عينيها حين تستقبل ذوي الأرحام من الإناث والذكور، لن يخرب العالم لو كانوا هكذا دائماً، تضطرب الدنيا لو كانت كلماتهم وابتساماتهم يوم العيد نابعة من قلوبهم ومن موقف تقدير حقيقي للمرأة من حيث كونها مرأة، أن تجبر المرأة الخواطر لكل أفراد العائلة في العيد أثناء شَيِّ اللحم، فهذا يعني أنها تتحول لحقل رماية أو مكتب شكاوي، من يحب الشواء مُحمّراً، سيتهمها بأنها حرقت اللحم، ومن يحب الشواء طريّاً، سيتهمها بأنها تركت اللحم نيّئاً، عبثاً تحاول إرضاء جميع الأذواق، تحاول رمي هذه التهم عنها، وتطلق بعض التبريرات، اللحم لم ينقع بالخل قبل بليلة، من قطع اللحم ترك حجمه كبيراً، المجمر ناره ملتهبة، الفحم مفعوله قوي، ومع ذلك أصبحت المسكينة بحاجة لكمية مهارات توازي كل أذواق أفراد العائلة، إلى درجة أصبحت معها تعرف كيف تفرق “الأقتاب المشوية” هذا لفلان وهذا لعِلاّن، لذلك تجنبوا إظهار التبخيس واشكروا بعد الله من يخدموكم، كُلوا ما يشويه الآخرون واحتفظوا بالتعليقات لأنفسكم…
أدرك الأولون قيمة المرأة فمنحوها تقديراً مناسباً في الأعياد والمناسبات، لكنهم فعلوا ذلك في لحظة من الصفاء في الوعي والشعور ومن باب شعور القوي بالضعيف والقادر بالعاجز، فصارت المرأة رمزاً للضعف والهشاشة شأنها شأن المرضى حين يُزارون على أسرّة الشفاء، غير أن الصفاء الحقيقي هو أن يُفعل ذلك من باب الشعور بالإمتنان، وفي بعض الحالات من باب الإعتذار والشعور بالأسف، ذلك لأنها كائن قوي يتحمّل الآلام حتى تكتمل دورة الوجود والحياة، فالبيت السعيد لا تقوم أركانه على جمال وجه المرأة، ولا تناسق قوامها، بقدر ما تقوم على فهمها ووعيها بدورها كزوجة وأم، والتزامها بتلك الواجبات، إلا أنها تكره الرجل البخيل، في حين يكره الرجل المرأة المتسلطة، قوية الشخصية بالباطل، وينفر من المتحكمة، المتدخلة بكل التفاصيل، ويجافي العنيدة، صعبة المراس، وهذه صفات لا تليق بالأنثى لأنها تقلل من احترامها ومكانتها ولا يرضى بها الإسلام وهذا أمر طبيعي يؤدي بالرجل إلى كرهها، وللأمانة فالنساء لديهن قدرة عجيبة على الإستماع ومتابعة كل الأحاديث الجانبية خلال التجمعات العائلية وفي المناسبات وتذكّر كل كلمة قيلت ومعرفة مغزاها ودلالاتها وخلفيتها وأبعادها الاستراتيجية والتكتيكية…
ومن جميل الحوارات التي شاهدتها لزوجين من الأقارب حديثي الزواج وبأنانية الرجل البدوي القوّام، جلس قرب زوجته الطيبة الذكية مساء بعد يوم متعب للطرفين من العمل المضني ليوم العيد الكبير ونحن في جمع عائلي بهيج، أخذ الزوج يقلب محطات التلفاز على ضجر، ليستقر في النهاية على محاضرة لشيخ أو خبير في التنمية الأسرية، ينتقل في كلامه من قصة إلى أخرى ومن حديث لآخر، ليستقر حديثه بعدها عن حقوق الزوجة ومكانتها في الإسلام ودورها، فتفتح هي آذانها وترخي سمعها وتطلق العنان لتركيزها وتبدو متفاعلة مبتسمة، وبعد كل وقفة للمتحدث توجه الكلام لزوجها بطريقة سلسة جميلة فيها شيء من النكتة: “كاتسمع ولا داير براسك زيزون” ويُظهر الزوج بأنه غير مُبال لما قالته زوجته والشيخ معاً وكأنه يقلب الصفحات على الهاتف ويرفع رأسه مرة مرة مع ابتسامة خفيفة في وجوهنا تعني الكثير من الردود، وبعد ذلك انتقل المُحاضِرُ للحديث عن حقوق الزوج ووجوب طاعته واحترامه، فتنشغل الزوجة بتحضير المجمر وتذهب لإحضار براد الشاي لتتهرب من الإستماع، في هذه اللحظة يتدخل الزوج ويطلب منها الجلوس ويعاجلها بالقول:”هي مال هادي تمشي وتجي بحال سويگلاص، الناس إلى كان لفقيه كَيْحَثّثْ ماكينوضوش حتى يْكَمّل”
بعد لحظات يضع كل واحد منهما رأسه في جهازه الخلوي ويرسل للآخر مقاطع فيديو من الواتساب لمحاضرات ومقولات مماثلة يقوي بها كل طرف موقفه، لكن الملاحظ أن الزوجة كيفما كان مستواها لا تحب الخوض في نقاش الإجازة الشرعية للتعدد، لكنها لا تنسى أبداً أن الزوج مأمور شرعاً بالإنفاق، ورغم أن الزوجة تنسى غضبها بكلمة جميلة من زوجها، فهو ينسى أنه متزوج أصلاً بكلمة جميلة من أية أنثى.
“كل عيد وأنتم بألف خير”
🖋️إدريس زياد