أكثر مايؤلمني هو رحيل الصالحين، فكلما سمعت عن أحد من الذين أحسبهم عند الله من الصالحين، ولا أزكي على الله أحداً، بأنه مريض أو بلغ به المرض مبلغاً إلا دعوت الله تعالى أن يشفيه ويمن عليه بالشفاء العاجل وأن يطيل في عمره وأن لا نفجع به، وإذا سمعت عن أحدهم بأنه لبى نداء ربه وسلم أمانته حزنت لذلك وتمنيت من الله أن يخلفنا خيراً منه، فرحيل الصالحين مصيبة، فمن أشراط الساعة موت الصالحين مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم “لا ياتي زمان إلا والذي بعده شر منه” وفي حديث آخر يقول “يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله تعالى باله” أي لا يرفع لهم قدراً ولا يقيم لهم وزناً، وللبخاري حفالة أو حثالة بمعنى واحد وهو الرديء من الشيء…
فموت الصالحين نقص لا يشعر به ولا يعرف خطره إلا من كان واعياً وفاهماً، وذلك أن الناس تقتدي ببعضهم البعض إما في الخير والصلاح وإما في الشر والفساد، فإذا قل أهل الخير في الأرض اقتدى الناس باللاهين والفاسدين فيكثر الفساد في الأرض ويحيق الهلاك، فالمطلوب منا أن يعمل المؤمن على إصلاح زمانه قدر جهده وقدر استطاعته فهذا من صميم عمل الصالحين جميعاً، فهم خرجوا إلى الناس وهم في غفلة وفساد فعملوا على الإصلاح وإقامة العدل والحق ونشر القيم والأخلاق الحميدة، فما لم يقم الصالحون بذلك فالناس في خطر، نسأل الله تعالى أن يخلفنا بالصالحين خيراً…
الحياة والموت يبدوان اتجاهان متضادان، هنا الموضوع أمر إيمان، بمعنى كيف ننظر إلى كلتيهما، البعض يجمع بينهما في فكره وعمله فيكون أكثر اطمئناناً ولا يؤرقه أن هنالك موت وقد يذكره عدة مرات في يومه من خلال دعائه، البعض يخاف الجمع بينهما لأمور دنيا لم يحققها بعد، وبرامج عمل بعيدة المدى، فهو لا يريد أن يشوش على تفكيره بفكرة الموت والتي تعني توقف كل شيء يركض لتحقيقه، البعض لا مشاريع لديه إنما هو يعتقد أنه لم يُعِد نفسه لفكرة الموت فيتهرب حتى من ذكرها، لأنه يسيطر عليه كسل أو ربما جدل في عقله حول الإيمان، فهذا لا يحب أن يقترب الأجل قبل رسوه على بر، والطبيعة البشرية تحب الحياة لأنها مخلوقة على حب الدنيا…
استدعى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك أحد أمراء الدولة الأموية العالم بالله أبا حازم ودار بينهما حوار شيق:
عندما دخل العالم على الأمير، وجّه الأمير إليه سؤالاً، قال: “يا أبا حازم، لماذا أصبحنا نحب الدنيا ونكره الموت؟”
إجابة هذا الإمام لو أُلقِيت على جبل أشمَّ، لتحرك الجبل من مكانه، قال: “يا سليمان، لأنكم عمَّرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة، ومُحالٌ أن يحب الإنسان الخروج من العمار إلى الخراب”، كيف لا يحب الدنيا مَن عمَّرها؟ وكيف يحب الآخرة من خرَّبها؟
الموت يتبع مع الجميع سياسة ديمقراطية تقوم على المساواة المطلقة، فالموت لا يعرف التمييز بين عباقرة وسوقة، أو بين علماء وجهّال، أو بين شباب وشيوخ، أو بين عاملين وخاملين، أو بين أخيار وأشرار، الموت جندي مأمور من جنود الله، فإذا كان هذا الجندي عادل فما بالك بالملك.
🖋️إدريس زياد