بقلم: ذ. صالح رشيد.
لا يمكن لأي متابع للشأن التربوي إلا أن يقر بأن المدرسة العمومية المغربية كانت في حاجة ماسة لـ “صدمة كهربائية” تعيدها إلى الحياة. نسب الهدر المدرسي المرتفعة، وضعف التحكم في الكفايات الأساسية لدى نسبة كبيرة من المتعلمات والمتعلمين حتى بعد سنوات من الدراسة، كلها مؤشرات دقت ناقوس الخطر. في هذا السياق، وُلد مشروع “المدرسة الرائدة” كجزء من خارطة الطريق 2022-2026، حاملاً وعداً بمعالجة “أزمة التعلمات” من جذورها.
أولاً: الجانب المشرق – الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها:
من الظلم اختزال هذا المشروع الطموح في بضع نقاط سلبية. هناك إيجابيات جوهرية تمثل قطيعة مع إصلاحات سابقة:
- الانتقال من النوايا إلى الأثر القابل للقياس: لأول مرة، يضع إصلاح تربوي هدفاً رقمياً واضحاً ومحدداً: تحسين نسبة تحكم التلاميذ في المهارات الأساسية بشكل كبير. هذا التحول نحو “ثقافة النتائج” يفرض على المنظومة بأكملها، من الإدارة المركزية إلى الأستاذ في القسم، التركيز على الأثر الفعلي للعملية التعليمية على المتعلم، بدلاً من الاكتفاء بتطبيق المساطر والإجراءات.
- اعتماد مقاربات بيداغوجية أثبتت نجاعتها: إن تبني التدريس وفق المستوى المناسب (TaRL) والتدريس الصريح (Explicit Instruction) ليس مجرد استيراد لتجارب أجنبية. إنه اعتراف بأن الطريقة التقليدية الموحدة لم تعد تجدي نفعاً في فصول غير متجانسة.
- “طارل” (TaRL) هي أداة إنصاف بامتياز، فهي تضمن ألا يُترك أي تلميذ متعثر خلف الركب، وتمنحه فرصة بناء تعلماته بوتيرة تناسب مستواه الحقيقي، مما يعيد له الثقة بالنفس.
- “التدريس الصريح” يقطع مع الغموض والضبابية في الشرح، ويقدم للمتعلم مساراً واضحاً ومنظماً لاكتساب المهارات، وهو ما تحتاجه المراحل التعليمية الأولى بشدة.
- التطوير المهني المكثف والمؤطر للأستاذ: على عكس إصلاحات سابقة كانت تلقي بالمسؤولية على الأستاذ دون تزويده بالعدة اللازمة، يضع هذا المشروع الأستاذ في صلب اهتمامه عبر تكوينات مكثفة قبلية ومواكبة مستمرة. توفير “العدة البيداغوجية” الجاهزة (دليل الأستاذ، موارد رقمية، وسائل عمل) يخفف من عبء التحضير المادي، ويسمح للأستاذ بالتركيز على جوهر مهمته: التفاعل مع التلاميذ وتوجيههم.
- تحفيز الفريق التربوي: إن إقرار منحة مالية مرتبطة بالأداء وتحقيق الأثر الإيجابي على التلاميذ، رغم الجدل الذي قد تثيره، يمثل اعترافاً بالمجهود الإضافي الذي يبذله الفريق التربوي المنخرط، ويخلق دينامية وتنافساً إيجابياً داخل المؤسسات.
- تحسين فضاء المدرسة: يرافق المشروع في كثير من الأحيان عملية تأهيل كبيرة للبنية التحتية للمؤسسات المعنية وتجهيزها بمعدات رقمية، مما يساهم في توفير بيئة مدرسية أكثر جاذبية وتحفيزاً.
ثانياً: الوجه الآخر للعملة – التحديات ونقاط الضعف:
فهل هذا يعني أن المشروع مثالي وخالٍ من العيوب؟ بالطبع لا. إن واقع التنزيل يكشف عن تحديات كبيرة قد تنسف المكتسبات إن لم يتم التعامل معها بحكمة:
- خطر “التنزيل المتسرع” على حساب الجودة: إن الرغبة في تعميم المشروع بسرعة قياسية على آلاف المدارس تشكل الخطر الأكبر. هذا التسرع يؤدي إلى تكوين غير كافٍ للأساتذة، ومواكبة ميدانية سطحية، مما يحوّل المقاربات البيداغوجية العميقة إلى مجرد طقوس شكلية يتم تطبيقها دون فهم لجوهرها.
- التركيز المفرط على “القابل للقياس” وإهمال ما عداه: إن الهوس بتحقيق النسبة المئوية المستهدفة في الاختبارات الموحدة قد يدفع الأساتذة، تحت الضغط، إلى “التدريس من أجل الامتحان” (Teaching to the test). هذا يهدد بإهمال الكفايات الأخرى غير القابلة للقياس بسهولة، مثل التفكير النقدي، الإبداع، المهارات الحياتية، والتربية على القيم.
- العبء المتزايد على الأستاذ: رغم توفير العدة البيداغوجية، فإن إدارة مجموعات المستوى (TaRL) تتطلب مجهوداً تنظيمياً وذهنياً كبيراً. الضغط النفسي لتحقيق النتائج، وكثرة التقارير والاجتماعات، والشعور بالمراقبة المستمرة، كلها عوامل قد تؤدي إلى إنهاك الأساتذة وفقدانهم للحماس على المدى الطويل.
- إشكالية الاستدامة: ماذا سيحدث بعد انتهاء فترة الدعم المالي والمواكبة المركزة للمشروع؟ هل ستصبح هذه الممارسات جزءاً من هوية الأستاذ والمؤسسة، أم أنها ستتلاشى كما تلاشت إصلاحات سابقة؟ إن ربط المشروع بدعم مركزي مؤقت يجعله هشاً أمام أي تغيير سياسي أو تقليص للميزانيات.
- نموذج موحد لواقع متنوع: إن تطبيق نفس النموذج بنفس الآليات في مدرسة حضرية مكتظة وفي وحدة مدرسية قروية نائية يتجاهل الفوارق الكبيرة في البنيات التحتية، والمستوى السوسيو-اقتصادي للتلاميذ، والموارد البشرية المتاحة. المرونة والتكييف مع السياق المحلي لا تزال حلقة مفقودة.
ثالثاً: اقتراحات حلول عملية لنجاح مستدام:
إن الاعتراف بنقاط الضعف ليس دعوة لهدم المشروع، بل هو شرط أساسي لتقويمه وتطويره. أقترح هنا خارطة طريق من حلول عملية:
- الانتقال من منطق “التوسع الكمي” إلى “التعميق النوعي”: يجب إبطاء وتيرة التعميم. بدلاً من إضافة 2000 مدرسة كل سنة بشكل قد يكون سطحياً، من الأفضل التركيز على تحويل المدارس المنخرطة حالياً إلى “مراكز تميز” حقيقية. يمكن لهذه المدارس أن تصبح قاطرة لتكوين أقرانها في المناطق المجاورة، مما يضمن انتقالاً سلساً ومبنياً على الخبرة الميدانية.
- بناء نظام تقييم متكامل: يجب تجاوز الاختبارات المعرفية الموحدة. لا بد من بناء منظومة تقييم شاملة تتضمن:
- تقييماً كيفياً: عبر ملاحظات صفية منتظمة تركز على جودة التفاعلات البيداغوجية وليس فقط على النتائج.
- ملفاً تتبعياً للمتعلم (Portfolio): يوثق تطوره في مختلف المجالات، بما فيها الإبداعية والفنية.
- تقييماً للمناخ المدرسي: ودرجة انخراط جميع الفاعلين.
- توفير دعم حقيقي ومستدام للأستاذ: الدعم لا يعني فقط التكوين. يجب التفكير جدياً في:
- تخفيض عدد التلاميذ في القسم في المدارس الرائدة كأولوية.
- توفير “أساتذة موارد” أو “مواكبين” متفرغين داخل كل شبكة مدارس، تكون مهمتهم تقديم الدعم البيداغوجي اليومي للأستاذ داخل قسمه.
- تخصيص وقت محدد ضمن استعمال الزمن للتخطيط المشترك وتبادل الخبرات بين أساتذة نفس المستوى.
- أنسنة المشروع وتكييفه محلياً: يجب منح الفرق التربوية في المؤسسات هامشاً من المرونة والمبادرة لتكييف الأنشطة والمقاربات مع واقع تلاميذهم وخصوصية منطقتهم، مع الحفاظ على المبادئ الأساسية للمشروع. يجب أن يشعر الفريق التربوي بأنه “مالك” للمشروع وليس مجرد “منفذ” لتعليمات.
- ضمان الاستدامة عبر المأسسة: لكي لا يموت المشروع، يجب أن يصبح جزءاً من الحمض النووي للمنظومة. ويتم ذلك عبر:
- إدماج مقاربات (TaRL والتدريس الصريح) بشكل معمق في برامج التكوين الأساسي بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (CRMEF).
- تحويل العدة البيداغوجية إلى موارد مفتوحة وقابلة للتطوير من طرف الأساتذة أنفسهم.
في الأخير وجب التنويه إلى أن “المدرسة الرائدة” تمثل فرصة تاريخية قد لا تتكرر لمعالجة إحدى أعمق أزماتنا الوطنية. نجاحها ليس مسؤولية الوزارة وحدها، بل هو مسؤولية جماعية. علينا كخبراء وباحثين ونقابيين وأساتذة وأسر أن ننتقل من لغة الرفض المطلق أو التأييد الأعمى إلى لغة النقد البناء والمشاركة الفاعلة. فلنحتضن طموح هذا المشروع، ولنعمل معاً على تصويب مساره، وتحصينه ضد التحديات، لكي لا يبقى مجرد “رائد” في اسمه، بل يصبح رائداً في نتائجه وأثره على مستقبل أطفالنا ومستقبل المغرب.