بقلم:مصطفى لحميدي
“هنا لندن… دار الإذاعة البريطانية” كانت هذه العبارة تتردد في فضاء بيوتنا ومقاهينا برنّة عميقة، كأنها صاعدة من قاع المحيطات. كلمات قليلة، لكنها كانت كفيلة بأن توقظ فينا رهبة واطمئنانًا في آنٍ واحد، وتجعلنا ندرك أن لحظة مهمة قد بدأت، وأن العالم يوشك أن يدخل بيوتنا عبر صوت المذياع.
في الثمانينات، وأنا طفل أتابع دراستي بسيدي رحال، لم يكن هناك شاشات ولا هواتف ذكية ولا قنوات فضائية. كان الراديو وحده سيّد اللحظة، يفرض حضوره في البيوت والدكاكين والمقاهي، يختصر لنا الدنيا في أصوات تأتي من بعيد، من لندن تحديدًا، حيث إذاعة الـBBC العربية وبرامجها الشيّقة مثل “قول على قول”.
ما زلت أتذكر جيدًا كيف كان التلاميذ الأكبر سنًا يترقّبون النشرات الإخبارية كأنها مواعيد مقدّسة، وكيف كان المتقاعدون البسطاء، الذين لم يذوقوا طعم المدرسة، يصغون بشغف إلى كل كلمة. لم يكن يستمع لتلك الإذاعات إلا أصحاب العقول الذكية، المتطلعة لفهم العالم، المدركون أن وراء كل خبر درسًا، وأن وراء كل برنامج نافذة لفهم أوسع للحياة.كان لكل خبر يخرج من لندن وزن وثقل: لا حقيقة إلا ما تقوله إدارة لندن، وهكذا اكتسبت الإذاعة سمعتها الواسعة وانتشارها الكبير.يجلسون في حلقات صغيرة، يضعون المذياع في الوسط كأنه مركز الكون، ويصغون بكل ما أوتوا من اهتمام.
بعد انتهاء النشرة تبدأ النقاشات: تحليل، تفسير، واستخلاص العبر. كان الراديو بالنسبة لهم مدرسة حقيقية بلا جدران ولا كتب، يعلّمهم السياسة والاقتصاد وأحوال الدنيا.إلى جانب الراديو، كانت المجلات مثل العربي وJeune Afrique ومقالات L’Opinion des Jeunes نافذة أخرى على العالم. كنا نقرأها بشغف، نستمتع بمقالات الشباب وآرائهم وتحليلاتهم، ونكتسب من خلالها قدرة على التفكير النقدي وفهم قضايا العالم من منظور مختلف.
وفعلاً، كنت من القلائل الذين يجمعون أعداد مجلة العربي بشغف، بينما بعض أصدقائي لا يزالون يحتفظون بمجلدات كاملة من Jeune Afrique وL’Opinion des Jeunes، كأنها كنوز فكرية لا تُقدّر بثمن.
أما نحن، فقد كنا نسمع أصواتًا صارت جزءًا من ذاكرتنا: ماجد سرحان، هدى المدفعي، رشاد رمضان، فؤاد عمر، صبري سلامة… مذيعون لم نرهم قط، لكننا أحببناهم كما لو كانوا جيرانًا لنا. نبراتهم الواثقة وكلماتهم المحكمة كانت تمنحنا يقينًا لا يتزعزع بأن الخبر الذي يصلنا خبر صادق.
المشهد كان بسيطًا لكنه عميق الأثر: رجال بجلابيبهم وعمائمهم، قلوبهم معلّقة بالأرض وبالسماء في آنٍ واحد، يتفاعلون مع خبر عن حرب في المشرق أو أزمة في الغرب وكأنهم جزء حيّ من العالم الكبير. كانت الأصوات القادمة من بعيد تجعل مدينة صغيرة مثل قلعة السراغنة أقرب إلى لندن وباريس وواشنطن، وتجعلنا نشعر أننا نعيش في قلب الأحداث.
رحم الله أستاذي في اللغة العربية، وكان أردنيًّا، هو من دلّني على إذاعة الـBBC وRFI، وشجّعني على المواظبة على قراءة المجلات والمقالات الشبابية مثل L’Opinion des Jeunes.
اليوم، وأنا أستعيد تلك الصور، يملؤني الحنين وتغمرني ابتسامة ممزوجة بغصّة. يا الله، كم كان العالم بخير! كم كانت الحياة أبسط وأصفى! الناس كانوا أقرب إلى بعضهم، والصدق أقرب إلى القلوب. جلسة قصيرة حول مذياع قديم أو مجلة كانت تكفي لتوحيد القلوب وإشاعة جوّ من الألفة والمعرفة.
لقد كان الراديو والمجلات نافذتنا الكبرى على العالم، وكان صوت المذيع جسرًا يصل بين بيوت بسيطة في قلعة السراغنة وعواصم الدنيا. أما اليوم، في زمن ازدحام الأخبار وتشوش الحقائق، نفتقد تلك البساطة والصفاء، ونفتقد يقينًا بأن ما نسمعه صادق، ونفتقد دفء اللحظة التي كان يخلقها صوت قادم من بعيد يفتتح كلامه بعبارة خالدة:”هنا لندن… دار الإذاعة البريطانية”.