بقلم الصحافي :محمد الطالبي
منذ مطلع الثمانينات، وإقليم قلعة السراغنة يئنّ تحت وطأة الجفاف، والعزلة، والتهميش التنموي المتعمد. إقليم ساهم أبناؤه بشجاعتهم ودمائهم في الدفاع عن ثغور الوطن، وقدموا أرواحهم في معارك التحرير والحفاظ على استقرار البلاد، لكنه لم يجد من المركز ولا من الحكومات المتعاقبة سوى التنكر، والصمت، والتجاهل الممنهج.
قلعة السراغنة اليوم ليست فقط عنوانًا للفقر أو العطش أو الهشاشة، بل عنوان لفضيحة سياسية تنموية اسمها: “الإقصاء المُمنهج”. فبينما مدن المملكة التي حظيت بعناية خاصة ومشاريع ضخمة، ظل هذا الإقليم يُدار بمنطق “البقايا”، ويُعامل وكأنه خارج خريطة الوطن.
هل يُعقل أن يُترك مستشفى السلامة، وهو الوحيد بالإقليم، في وضعية ميؤوس منها؟ أي استهتار هذا بحياة آلاف المرضى الذين ينتظرون ساعات طويلة من أجل حقهم في العلاج؟
ألا يكفي هذا وحده ليكون وصمة عار على جبين من يديرون الشأن الصحي؟وهل من المقبول أن يبقى أبناء هذا الإقليم محرومين من جامعة حقيقية؟ جامعة تُنقذهم من الأمية المعرفية، وتمنحهم تكوينًا يفتح لهم آفاق الشغل، بدل أن يظلوا رهائن للبطالة أو يضطروا إلى مغادرة الإقليم طلبًا للعلم أو العمل؟
أليست الجامعة رافعة تنموية أساسية؟ فلماذا حُرم منها الإقليم إلى اليوم؟هل من الطبيعي أن تظل النفايات تُرمى عشوائيًا وسط المدن والقرى، في غياب مطرح إقليمي منظم؟ أليست حماية البيئة من صميم التنمية المستدامة؟
أليس من حق الساكنة أن تعيش في محيط نظيف، بدل أن تكون محاصرة بروائح الأزبال والمكبات العشوائية؟أما العطش، فقد أصبح قصة يومية تعيشها مدن وقرى الإقليم. الماء الصالح للشرب ينقطع باستمرار، وندرة مياه السقي تقسم ظهر الفلاح الصغير، وتهدد ما تبقى من النشاط الفلاحي.في الوقت الذي توزع فيه مياه السدود حسب منطق الريع الزراعي، تُحرم المدارات السقوية في الإقليم من نصيبها، وتُترك ساكنة القرى لمصيرها.فأين هي العدالة المجالية؟ وأين هو الحق في الماء؟وفي العالم القروي، تتعمق المأساة أكثر: غياب الإنصاف في توزيع مياه السقي، غياب دعم حقيقي للأنشطة الفلاحية، تدهور القطيع الحيواني، وموت بطيء لأشجار الزيتون، رمز هذا الإقليم الصامد.
ومع كل هذا، لا وجود لأي برنامج إنقاذ حقيقي، لا دعم لحفر الآبار، لا مساطر مُيسّرة، لا التفاتة رسمية. فقط وعود تتبخر، وسياسات تتعاقب دون أثر ملموس.الشباب بدورهم، تُركوا للمجهول لا مناصب شغل، لا مشاريع مدرة للدخل، لا مواكبة للمبادرات الذاتية. والنتيجة؟ هجرة جماعية نحو المجهول، أو ركوب قوارب الموت. شباب فقد الأمل في وطن لم يعد لهم فيه مكان، لأن المركز والحكومة تخلّوا عنهم.
وحتى المشاريع التي بُرمجت قبل سنوات طويلة، ما زالت معلقة في رفوف الإهمال: السوق الأسبوعي الجديد، المجزرة، سوق الجملة، المطرح الإقليمي، المكتبة الوسائطية، المسبح شبه الأولمبي، ملاعب القرب، الأسواق النموذجية…
كلها مشاريع كان من المفروض أن ترى النور منذ زمن بعيد، لكنها تحوّلت إلى أوراق انتخابية، وسراب يلوّح في الأفق مع كل حملة سياسية.
كل هذا يحدث في ظل صراعات سياسوية ضيقة، وتبادل للاتهامات، وممارسات انتخابية فاسدة، تُمعن في تضييع الزمن السياسي. بدل خدمة الصالح العام، يتم الانشغال بخدمة المصالح الخاصة، وتُستغل مواقع المسؤولية للتكريس لمزيد من الفوضى والجمود لان لا يراد لاقليم قلعة السراغنة الذي،ابعد من ثروة طبيعية مثل الفوسفاط والتي لا يستفيد منها رغم انها امتداد طبيعي له وهنا يبق السؤال الكبير حول التقسيم الترابي .
ولأن الجهة باتت تدير ظهرها للإقليم، فالإقصاء ازداد حدة. مشاريع تنموية تُوزع بميزان الكيل بمكيالين، والنتيجة: استمرار الحيف، والتهميش، و”الحكرة” الممنهجة، وكأن قلعة السراغنة ليست جزءًا من هذه الجهة، ولا من هذا الوطن.
ومناسبة العودة للحديث عن هذا الواقع، لانه لا يمكن تجاهل الكارثة الإنسانية التي شهدها الإقليم خلال ثاني أيام عيد الأضحى، حين انزلقت دراجة ثلاثية العجلات في أحد المنحدرات، فتسببت في وفاة ثمانية أشخاص دفعة واحدة، من بينهم نساء وأطفال والحصيلة مرجحة للارتفاع . اتوا في طريقهم للاحتفال بالعيد، بحثًا عن فسحة صغيرة من الفرح في قلب المعاناة اليومية، لكن الحلم انتهى في قاع المنحدر، وتحول العيد إلى مأتم عمّ أرجاء المنطقة.
هذه المأساة المروعة ليست قضاءً وقدرًا فقط، بل نتيجة مباشرة لسياسات الإهمال، لغياب البنية التحتية، ولانعدام النقل الآمن، وللاستخفاف بأرواح الناس الذين لم يجدوا غير تلك الدراجات المتواضعة للهروب من العزلة والعطش والحرارة.
ما وقع لم يكن حادثًا عرضيًا، بل صرخة دموية في وجه مركز يتجاهل الهامش، وحكومة تُمعن في توزيع الموت بالصمت والتقاعس.رحم الله الضحايا، وتضامني الكامل مع أسرهم، ومع كل أم فقدت طفلًا، وكل امرأة فقدت روحها ، وكل عائلة دفنت فرحة العيد تحت التراب بدل أن تذبح أضحية.
مشاهد كهذه تكسر القلوب، وتفضح بألمٍ لا يُطاق، عُمق الفجوة بين وطنين: وطن يُحتفى به في الواجهات، وآخر يُترك لينزف على الطرقات.
ويا للمفارقة.. قلعة السراغنة، التي هي مسقط رأس سلالة الصردي، سلالة الأكباش التي تملأ الأسواق كل عيد، لم يستطع أبناؤها هذه السنة ذبح أكباشهم. لماذا؟ لأن الخصاص فظيع، والماء نضب، والفلاحة انهارت، والقطيع نُحر وتبخر قبل أن يُذبح فعليًا، بفعل مخطط المغرب الأخضر. هذا المخطط الذي قُدّم لعشرين سنة كاملة كمنقذ للفلاحة، تحوّل في النهاية إلى كارثة وطنية: فلا فلاح صمد، ولا ماء بقي، ولا كرامة بقيت في الحقول. والنتيجة: نزوح جماعي، جفاف اقتصادي، ويأس متصاعد.ومع ذلك، لا أحد حوسب. بل العكس، صاحب هذا المخطط تمّت مكافأته سياسيًا، ووُضع على رأس حكومة لا تحمل من مهمة سوى تكميم الأفواه، ومواصلة نحر المواطن المغربي قربانًا على مذبح التفقير والتهميش.
إن أبناء هذا الإقليم لا يطلبون امتيازات، ولا يطالبون بما ليس لهم. هم فقط يصرخون من أجل حقوقهم: في الماء، في الصحة، في التعليم، في العيش الكريم، في الكرامة. لكن يبدو أن لا احد يريد ان يسمع او يرى لان صوت الاحتكار والاستغلاب والفساد صار اعلى . الحكومة تواصل صم ادانها لكن الصمت لا يدوم، والسكوت لا يعني الرضى.
آن الأوان أن تُعاد كتابة العلاقة بين المركز والهامش، وأن يسمع المسؤول صوت المقهور، قبل أن يتحول هذا الصوت إلى صرخة جماعية، لن يُسكتها لا الترقيع، ولا التسويف، ولا خطاب الأمل الفارغ.فالهامش إذا بكى، فدموعه ليست ماءً… إنها شرارة.
*محمد الطالبي نائب رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية.