ألقى الشيخ الفقيه عبد الله بلمدني، عضو المجلس العلمي المحلي ومدير معهد الشيخ خليل للتعليم العتيق ببني ملال، محاضرة علمية تحت عنوان: “التبليغ الحكيم”، انطلاقا من قوله تعالى: “والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحدا إلا الله، و كفى بالله حسيبا” (الأحزاب:39)، و ذلك يوم الخميس 5 محرم 1446هـ الموافق ل 11 يوليوز 2024م على الساعة 11 صباحا بمسجد حي السلام بحي الهناء بمدينة قلعة السراغنة.
كانت المحاضرة مكونة من عنصرين اثنين: الأول، وقفة مع الآية الكريمة وسياقها، والثاني وقفة تتعلق بخصائص المبلغ.أشار المحاضر في العنصر الأول إلى أن كلمة التبليغ وردت في القرآن الكريم بصيغة الماضي، ووردت في هذه الآية الكريمة بصيغة المضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار، ووردت بصيغة الماضي، ووردت بصيغة الأمر، ووردت باسم الفاعل، ووردت بأصل المشتقات الذي هو أصل المصدر.
وهذا يعني أن مادة البلاغ أو التبليغ لها عناية خاصة في كتاب الله تعالى، أي ينبغي للتبليغ أن يكون مُبِطِّنًا للأزمنة كلها، بماضيها، حاضرها ومستقبلها، وإن هذا المصدر قد أوخذ بجميع مشتقاته، فغطى الماضيَ والحاضرَ والمستقبل، ثم هو ثابت بصيغة المصدر، وبصيغة مشتقاته فهو متحرك، فالبلاغ ثابت ومتحرك.فالبلاغ ثابت أبدا، لأن بتبوثه يكون الكون ثابتا، ويوم يتوقف البلاغ يتوقف الكون، أي يوم تتوقف حركة البلاغ، تتوقف حركة الكون وتقوم الساعة. وقمته وجماله وكماله يتجلى في هذه الأمة فقد استمر في مساره لم يتوقف لأن سنة الله سبحانه وتعالى أن يبعث في كل أمة رسولا “أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت” فظل البلاغ ثابتا •
والبلاغ متحرك حيث كان محصورا في الزمان و المكان سابقا، و أصبح بعد ظهور الإسلام غير محدود في الزمان و المكان.
وأشار الفقيه بلمدني إلى سياق الآية بأن أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج بابنة عمه زينب بنت جحش رضي الله عنها، و كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوجها مولاه زيد بن حارثة. وقد أمره الله تعالى أن يتزوجها بعد أن يطلقها زيد بن حارثة الذي كان يدعى بزيد بن محمد ، وذلك أن التبني كان أمرا معمولا به قبل الإسلام، و كان أمرا عظيما بمعنى أن المولى، الذي هو المُعتَق، يصير ابنا لمولاه الذي هو المُعتِق.
وهذه أمور وقعت في غير محلها، وكان ينبغي تصحيح وضعها. وتصحيح هذه الوضعية الخطيرة عظيم، لأن هذا أمر عظيم عند العرب. فكيف تُجتث البُنوَّة من جذورها لأنها بُنوَّةٌ باطلة وليست بُنوَّة صحيحة. فلا يكفي فيها القول المجرد، وينبغي أن تمثل في صاحب الرسالة حتى تُجتث من القلوب والعقول والأفكار، فيزول أثرها نهائيا. فتجسدت في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تعالى بأن يتزوج من حليلة الإبن المزور حتى تبقى حليلة الإبن الحقيقي هي المحرمة. قال تعالى: “وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه”(الأحزاب: 37) ورسول الله لم يكن يخشى الناس، والخشية هنا إنما هي حياء يملأ القلب الكبير، فارتقى هذا الحياء إلى درجة الخشية. فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، زواج رباني من فوق سبع سماوات.
قال تعالى: “فما قضى منه زيد وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، و كان أمر الله مفعولا” (الأحزاب: 37).
فكانت زينب تفتخر على باقي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: “كل واحدة منكن زوَّجها ولي أمرها، أما أنا فزوجني ربي من فوق سبع سماوات”.
وينبغي أن يقاس على هذا مجموعة من القضايا حيث ينبغي اجتثاث بناء الباطل وينهدم، ويقوم مقامه بناء الحق.وفي الجزء الثاني من المحاضرة، أشار الفقيه بلمدني إلى أن المبلغ له خصائص لا بد من التحقق منها ليتم البلاغ ويتحقق الوصل، وصل المنقطع وبلوغ الغاية، غاية وصل العبد بالرب، ولا تتحقق هذه الغاية إلا إذا تحقق الوصل بالذات. فإذا تحقق الوصل بالذات، تحقق الوصل خارج الذات.
أما إذا كان الوصل غير متحقق بالذات، فكيف يتحقق الوصل خارج الذات، ففاقد الشيء لا يعطيه. فإذا كنت غير موصول، فكيف تحقق الوصل بغيرك وأنت نتقطع، فلا يمكن للمنقطع أن يوصل غيره، ولا للمتخلف أن يغير غيره. ,اخبر المحاضر أنه حاول جمع خصائص التبليغ، وجعلها عشرة، ثم جعلها مُسجّعة بحرف يحتاج إلى جهد، وهو حرف القاف، وأشار إلى أن كل خصيصة من هذه الخصائص تحتاج إلى منا إلى محاضرة، ولكن حسبنا أن نقتطف من كل خصيصة زهرة على الأقل نشمها، وهذه الخصائص هي كالتالي:
1 الشعور الخارق: الذي يخرق تلك الحجب التي بين المُبلِّغ وبين أمته، شعور يجعله مهموما بأمته، في ليله ونهاره، في مدخله ومخرجه، في سرائه وضرائه، في رخائه وعسره، في جميع مراحل حياته. وأشار إلى قوله تعالى “حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون” (النمل: 18)حيث أن النملة قالت قولتها بعد أن شعرت، فنبهت، ونهت ، وخصصت وعممت وأعذرت وأنذرت حيث أجمعت الخطابات كلها. متى قالت؟ قالت بعد الشعور بالخطر الذي يهدد شعبها. إنه الشعور الخارق. فمن لا يعيش هموم أمته لا يمكن أن يتحقق له الشعور الحارق.
2. الهم الحارق: فلما يتحقق الشعور الحارق، يأتي الهم الحارق، فهو الذي يجعل صاحبه لا يستريح إلا إذا كانت أمته على تمام السعادة والراحة والطمأنينة، لا يستريح إلا باستراحة أمته، ولا يفرح إلا بفرحها، ولا يُسرُّ إلا بسرورها، ولا يطمئن إلا باطمئنانها، فصاحب الهم الحارق هو الذي ينهض ليلا يناجي ربه يتضرع إليه باكيا عليه، فيسكب دموعه إما حزنا إذا رأى في أمته ما يحزن، أو فرحا إذا رأى في أمته ما يسر.
3.الحب الفائق: فهو الذي يحب أمته حبا جما، يحب أطرافها كلها، يحب فئاتها كلها حتى العصاة منها، إنه بهذا الحب يرحمهم. وأشار إلى قصة الإمام بن دينار مع شارب خمر حيث كان يسير في طريق ذات ليلة في أحد شوارع البصرة فوجد رجلا ملقا على ظهره يقول: “الله … الله”، ولما اقترب منه شم رائحة الخمر فيه، فعلم أنه سكران فقال الامام مالك بن دينار: “لأطهرن شفتيه حتى لا يخرج لفظ الجلالة من بين شفتين عليهما قطرات الخمر النجسة”، فجاء الامام مالك بن دينار بالماء وغسل الشفتين وقال بعد ذلك: “اللهم اهده إليك” وذهب الامام مالك بن دينار لينام ولما نام واستغرق في نومه سمع هاتفا ينادى ويقول له: “يا مالك طهّرت فمه من أجلنا فطهّرنا قلبه من أجلك”. و لما ذهب الامام ملاك بن دينار ليصلى الفجر كعادته بالناس إماما ولما عرج إلى مكان القبلة وجد ذلك العبد ساجدا بين يدي الله مستغرقا في البكاء يدعو ربه بأن يقبل توبته.
4. التفاؤل البارق: أشار إلى التفاؤل الذي أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق لما حُصر من المشركين من كل جهة، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بحفر الخندق، فعرضت لهم صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: “بسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا”. فلا بد من التفاؤل البارق.
5.الإشفاق السائق: الإشفاق على عباد الله، فإذا كان سائقك الإشفاق على خلق الله فلا بد أن يصل كلامك إلى عباده لأن قلبك ممدود بالرحمة على عباد الله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة على عباد الله.
6.الرفق المرافق: وأشار المحاضر إلى حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”. فالرفق يحتاج له المبلغ في السعي، في الحركة، في النظرات، في الملامح، في كل شيء.
7.التطبيق الصادق: لا بد من التطبيق الصادق. فالناس يسمعون كلام المبلغ بحالين: هل حاله يوافق مقامه؟ أم أن القول في واد والحال في واد آخر؟ بل لسان الحال عند الناس يسبق لسان المقال. فقبل أن يقول المبلغ بلسان المقال، يسبقه لسان الحال. إن للقلوب لغة هي أعظم من لغة اللسان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”. وأشار المحاضر إلى قصة الحسن البصري رحمه الله مع الرقيق، إذ جاءوه يوما وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذٍ يَقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء. فقام الحسن البصري في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم أيضًا، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، وكان أن خرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق. وحينها جاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: “لقد انتظرت حتى رزقني الله مالاً، فاشتريت عبدًا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل”.
8. الأسلوب الرائق: ابدأ بالأحسن فإن قلوب الناس قد جُبلت على من أحسن إليها. فكيف تهرب القلوب عنك وقد أحسنت إليها في الأسلوب؟ اختر من الكلمات أحسنها. فلماذا تخرج كل ما جاء على لسانك، وكل ما خطر على بالك؟ انتقي لترتقي، فلا يمكن أن ترتقي وأنت لا ترتقي، فبهذا الانتقاء يحصل لك الارتقاء. ثم يهرع الناس إليك. اليوم الناس في لهب من الفتن و المشاكل، فإذا رأوا شجرة وارفة الظلال، فروا من هذا الإحراق إلى تلك الظلال الوارفة فركنوا إليها.
9. الخطاب اللائق: فكلٌ ينبغي أن يخاطب حسب مقامه، وحسب وضعيته، وحسب مرتبته. فمن جعل الناس سواء فليس لحمقه دواء. لا يمكن أن تخاطب العالم بمثل ما تخاطب به العامِّيَ. فللحاكم مقامه، وللعالم مقامه، وللإمام مقامه، وللتاجر مقامه، وهكذا، فلا بد من الخطاب اللائق. قال تعالى: “ومن أحسن قولا من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم” (فصلت: 33- 36) .
10.الفهم الشارق: فليس كل فهم يكون شارقا. إن الفهم الشارق هو الذي أشرق على صاحبه، فأنار جوانب باطنه وقبحه وقلبه، فلما أشرق الفهم على صاحبه، أنار على من حوله. فلا يمكن أن ينير على من حوله إلا إذا كان قد شرق هو في ذاته، ولا يكون كذلك إلا إذا كان خالصا لله تعالى.
وللإشارة، فإن محاضرة الفقيه عبد الله بلمدني جاءت في إطار اضطلاع المجلس العلمي المحلي لقلعة السراغنة بمهمة التكوين المستمر للسادة القيمين الدينيين و بغاية انفتاحه على شركائه من علماء وأساتذة وباحثين في التنزيل الأمثل لخطة تسديد التبليغ، و إحياء لذكرى الهجرة النبوية الشريفة، وتفعيلا لبرنامجه المسطر في ضيافة عالم (الحلقة الثانية).
وقد سبقت المحاضرة مداخلة لرئيس المجلس العلمي لقلعة السراغنة الدكتور عبد الرزاق فاضل تطرق فيها إلى الثابت و المتحول من أنشطة المجلس العلمي، ثم تبعتها مداخلة للدكتور نجيب العلوي، عضو المجلس العلمي بقلعة السراغنة، قدم فيها تعريفا بالفقيه عبد الله بلمدني حيث تطرق إلى نشأته، أسرته، تصدره للتعليم والدعوة، و إلى مجموعة من الخصال والصفات التي تميزه، لكن الشيخ رد عليه بتواضع قائلا: “كل ذلك جمال سترني الله به، وستر به عيوبي، ولو كشف الله عيوبي لما استطعتم مجالستي كما قال بعض السلف: الحمد لله تعالى الذي لم يجعل للذنوب روائح، فلولاها لما استطعتم مجالستي”.
-بلعيد أعلولال




ابراهيم
يوليو 12, 2024أسلوب الشيخ عبد الله بالمدني أسلوب انسيلبي جميل رقيق ينفذ الى القلوب بسرعة.
حفظ الله شيخنا الجليل على هذة المحاضرة الرائعة. وفقنا الله جميعا لما يحب و يرضى.